الخميس، 25 يناير 2024

حوار مع الكاتب والمترجم ومُؤسِّس "مجتمع رديف" الأستاذ يونس بن عمارة على جريدة الحوار ~ْ

الكاتب والمترجم ومُؤسِّس "مجتمع رديف" الأستاذ يونس بن عمارة للحـوار:

غاية مشروع "مجتمع رديف" الأساسيّة إضفاء قيمة اقتصادية مُجزيـة على اللغة العربية


·       وصول مجتمع رديف للقائمة القصيرة لجائزة الإسكوا اعترافٌ ضمنيّ بالجهود التي بذلناها منذ إطلاق المجتمع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

·        « شبكات التواصل مرحلة من تاريخ الإنترنت وليست -ولن تكون- هي الإنترنت»

·        « الذكاء الاصطناعي نعمة جليلة للإنسانية، ولن تستبدل مَن يتعلم باستمرار وله تفكير ناقد ومَلَكة تحليلٍ»

·      « هناك أسماء لامعة في ميدان التدوين منها ناصر طارق؛ شروق بن مبارك؛ دليلة رقاي ونادية ميرة وغيرهم»

·       « لا وجود لمنصّة إعلامية في واقعنا العربيّ تجمع الصحفّيين والخبراء وصنّاع المحتوى النافع»


·  حاوره: منيـر سعـدي

                                   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    لصناعة المحتوى الرقميّ أهميّة كبيرة في عصرنا الحديث، حيث يؤدّي دورًا مهمًّا في التعليم والتسويق ونشر المعرفة وغيرها، ويشكّل مساحةً أساسيّة وواسعة من حياة الأفراد، ويُعدّ الكاتب والمترجم الأستاذ يونس بن عمارة من بين الشخصيّات الرائدة في هذا المجال، يتميّز بتقديم محتوى ذو كثافة وتنوّع في مختلف المجالات، وتشمل تجربته العديد من الخبرات والإنجازات، إذ يتقن صناعة المحتوى، والترجمة، ومشاركة المعارف في عديد المنصّات على شبكة الإنترنت، من بينها مدوّنته الشخصية التي خاض فيها تحدِّ التدوين بشكل يومي دون انقطاع لأكثر من ثلاث سنوات، ليخرج بتجربة نادرة واستثنائية في الفضاء التدويني العربي والعالمي.

ألّف يونس أربعة كتب، وترجَم ستّة أخرى بين الرواية والطبّ والتاريخ، ويعتبر "مجتمع رديف" من أهمّ وأشهر المشاريع التي أطلَقها لصقل وتبادل مهارات الكتابة وجعلها مصدر ازدهار مادي ومعنوي ومهني، بالإضافة إلى مدوّنته الصوتية "بودكاست يونس توك" التي تُعدّ ضمن النسبة 1 بالمئة الأفضل على مستوى العالم، كما نال يونس بن عمارة المرتبة الأولى في مسابقة مركز بروكنجز الدوحة البحثية للشباب العربي، كما اُختير مشروع "مجتمع رديف" قبل أيّام ضمن القائمة القصيرة لجائزة الإسكوا "التابعة للأمم المتحدة" للمحتوى الرقمي العربي.

يفتح هذا الحوار مع الأستاذ يونس بن عمارة باب تجربته في التدوين، والترجمة، وبعض مشاريعه، على غرار "بودكاست يونس توك" و "مجتمع رديف"، وعن رأيه في جملة من القضايا المتعلّقة بصناعة المحتوى بشكل عام.

      كيف تجيب عن السؤال الشّهير: كيف تعرّف نفسك في كلمات قليلة؟.

يونس بن عمارة؛ جزائري ابن 32 ربيعًا؛ أصف نفسي بأني رائدُ أعمال محتوى أي إستراتيجيّ يُحوِّل المحتوى المنشور على الإنترنت إلى تجارات ناجحة ومزدهرة تدرّ دخلًا وترضي معنويات من ينشئ ذلك المحتوى.

      أنت واحد من القلائل الذين ظلّوا متمسّكين بالتدوين الالكتروني وصناعة المحتوى وبشكل مكثّف بالطريقة الكلاسيكية رغم مواكبتك لأشكاله الجديدة المتعددة، ورغم كلّ ما عرفه من تحوّلات وتأثّر خاصّة بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ما الذي حافظ على شغفك بهذا المسار وإصرارك عليه؟.

هناك عودة للمدوّنات والتدوين بصورتها التي بدأت بها الإنترنت؛ والسبب في هذه العودة تَغَوُّلُ (من صارت غولًا) الشبكات الاجتماعية؛ فالناس وفق إحصائيات أخيرة قللوا النشر في الشبكات الاجتماعية؛ وأصبحت الشبكات مرعبة من ناحية المحتوى حيث لا يمكن للطفل أو الفتى الناشئ تصفحها دون مراقبة أبوية؛ وأيضًا لَعِب الحنين للماضي (النوستالجيا) دورًا في إحياء هذه النزعة للتدوين على شاكلته القديمة وبعثه من رقاده؛ ولنِعْمَ النزعة هذه النزعة وما أنا إلا أحد المساهمين في بعثها واستمرارها. لاحظ أن الإنترنت -ورغم أن الكثير لا يعلم ذلك لسبب أن الشبكات الاجتماعية أرادت ذلك أيضًا- أكبر من الشبكات الاجتماعية وأقدم منها. وسيستمر بعدها فالشبكات مرحلة من تاريخ الإنترنت وليست -ولن تكون- هي الإنترنت.

      تختلف تجربتك التدويّنيّة بكونك تدوّن بشكل مكثّف، حتى أنّك دوّنت على مدوّنتك الشخصية بشكل يومي دون انقطاع لأكثر من ثلاث سنوات، وهذا تحدٍّ صعب ويعتبر تجربة نادرة واستثنائية في الفضاء التدويني العربي والعالمي، حدّثنا عنها، هدفها ورسالتها، وأثرها عليك وعلى الآخرين الذين رافقوا التجربة بالمتابعة والاهتمام، وكيف استطعتَ الحفاظ على التزامك بذلك كلّ تلك المدّة الطويلة؟.

هدف التدوين اليومي كان توثيق أكبر قدر ممكن ممّا أستهلكه معرفيًا كي ينتفع به غيري فأنا كثير القراءة ولله الحمد وأحبّ لما أجد معلومة نادرة أو دراسة حديثة أو قصة جميلة مشاركتها مع الآخرين؛ ولتكوين جمهور احتجت أن أدوِّن يوميًا كي أخلق فيهم عادة زيارة مدونتي والعودة لها؛ وقد لاقت التجربة استحسانًا وتشجيعًا أدى لدعمي والتفاعل معي مما حفّزني على الاستمرارية وتجلى ذلك في بدء كثير من المتابعين يومهم بقراءة ما أكتبه يوميًا؛ وحزنهم لما انقطعت عن التدوين اليومي نظرًا للانشغال بمجتمعي الرقمي رديف ومشاريعي فيه.

      كيف ترى التجربة التدوينيّة الجزائريّة على مختلف أشكالها وأدواتها، وماذا عن مكانتها حاليا ومستقبلًا مقارنةً بالتجارب التدوينيّة الأخرى في الفضاء العربي؟.

ضعيفة جدًا وتحتاج الدعم والتشجيع ودعوة المزيد من الجزائريين والجزائريات ليكونوا مدونين ومدونات في الفضاء النصيّ والصوتي أي البودكاست لأنه في المرئي هناك جزائريون يصلون لحد ما للعالم خارج البلاد؛ الناس تعرف مدونين مشارقة ومصريين وشاميين لكن نادرًا ما يعرفون مدونًا جزائريًا نصيًا؛ لذا أسعد دومًا ببزوغ نجم مدوّن نصي جزائري وأفتخر به ويحلو لي هنا ذكر بعض الأسماء اللامعة في الميدان منها على سبيل الذكر لا الحصر: ناصر طارق؛ شروق بن مبارك؛ دليلة رقاي ونادية ميرة وغيرهم.

      أنت تتقن الترجمة بمختلف مجالاتها، وترجمتَ العديد من الكتب بين الرواية والطبّ والتاريخ، ماذا يعني لك فعل الترجمة، وإلى أي مدى يحتاج صانع المحتوى إلى إتقانها لخدمة مشاريعه؟.

الترجمة فرضٌ وليست خيارًا في هذا العصر، لذا إن أردت أن تكتب ما له قيمة علمية فإن تعلّم الإنجليزية واجب لا يمكنك القفز عليه؛ وقد ساهمتُ بتوفيق من الله بنقل معارف قيمة من الفضاء الغربي للفضاء العربي بلسان عربيّ مبين.

      "بودكاست يونس توك" مدوّنة صوتية أسستَها قبل سنوات، وتُعدّ ضمن النسبة 01 بالمئة الأفضل في العالم، وهي خلاصة قراءات وتجارب في الكتابة والترجمة وصناعة المحتوى، حدّثنا عن دوافع وأهداف هذه التجربة.

كنتُ أقدّمه أسبوعيًا وفشلتُ في الالتزام الأسبوعي بالنشر فانتقلت للشهري وهو كذلك مُذ فترة؛ وها هنا درسٌ مهم إذ أن فشلك في الالتزام لا يعني أن تتوقف ولو تخفف وتيرة النشر أحسن بكثير من الانقطاع، وبهذه الطريقة وصلت الآن بفضل الله إلى أكثر من 160 حلقة منشورة في مختلف المنصات العالمية ويسمعها الألوف في أنحاء العالم شتى.

      تعاقدتَ بصفتك مترجمًا للمحتوى مع شركات عديدة، بماذا تنصح المهتمّين بخوض تجارب عمل من هذا النوع، وما السبل والمهارات الضرورية التي تسهّل عليهم الحصول على فرص عمل في هذا المجال؟.

السبيل لذلك واضح لكن تنفيذه يحتاج صبرًا وتحمّلًا واستمرارية: أيًا كانت مهارتك اُنشر ما تفعله على الإنترنت؛ استمر في ذلك؛ شاركه؛ اخدم الناس لفترة دون مقابل؛ ثم تعاقد بصفقات مدفوعة بعد أن تكون قد أنشأت معرض أعمال (عينات من أعمالك على الإنترنت). أيضًا التواصل مع العملاء المحتملين (مراسلتهم من نفسك بخدماتهم بغرض التعاقد معهم) نافع جدًا وكفيل بأن يمكّنك من إيجاد عملاء ممتازين سيصيرون لاحقًا أصدقاء لك يفتحون لك أبوابًا لم تكن تحلم بها.

      ساهمتَ بصفتك متحدّثًا في مؤتمر الناشرين العرب السادس بالشارقة 2022، ولهذه التجربة إضافة في مسيرتك، ماذا تمنحُ المشاركة لصانع محتوى في هكذا فعاليات؟.

الظهور الإعلامي الذي يعطي دفعة تسويقية ومعنوية لصانع المحتوى، وأشكر الدكتور خالد عزب الذي أتاح لي هذه الفرصة.

      نلتَ المرتبة الأولى في مسابقة مركز بروكنجز الدوحة البحثيّة للشباب العربي، ما رأيك في المسابقات العربية التي تُعنى بصناعة المحتوى، هل هي كافية وتساهم في خدمة ودعم وتثمين المحتوى العربي الجادّ؟.

ولا شك، ونحتاج المزيد منها كي يربح عدد أكبر من صناع المحتوى الذين يجاهدون بالفعل في دفع عجلة تقدُّم المعارف البشرية.

      يعدّ "رديف" أهمّ مشاريعك، وهو مجتمعٌ رقميّ يوفّر تبادل الخبرات ويرتقي بمهارات أعضائه إلى مستوى المحترفين، بالإضافة إلى كونه فضاءً للتواصل الإنساني، حدّثنا عن فكرته ونواته الأولى، سرّ تسميته وطريقة عمله وأهدافه، والمزايا التي يقدّمها للمشتركين.

فضل التسمية يعود للزميل العزيز طارق الموصللي، ومعناه الذي يركبُ خلف السائق في إشارة لدعمنا من يشترك معنا، وهو مجتمع رقمي لتعلّم المهارات عن بعد.

غاية رديف الأساسية هو إضفاء قيمة اقتصادية مُجزية على اللغة العربية؛ بمعنى أن رسالتنا أن نفك أقفال كامل القيمة الاقتصادية التي تحتويها اللغة العربية ونطلق عِنانها بتمكين الناطقين بها من اكتساب مهارات مكتبية قيمة مطلوبة في سوق العمل.

وقد جاءت فكرة رديف بعد استشارة الزملاء والأصدقاء؛ وأسَّستُه بعون الله وحوله وقوته بالمشاركة مع المترجمة والكاتبة الجزائرية القديرة إكرام صغيري؛ وذلك بعد ملاحظة ثغرة في السوق العربي ذات ثلاثة أبعاد: فوفق الإحصاءات 70 بالمئة من أصحاب الشركات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ينوون توظيف المستقلين؛ في حين نرى وفق تقرير البنك الدولي أن أشد مطالب المستقلين هي التدرّب والتعلّم؛ لذا رديف حلقة وصل بين احتياجات أصحاب الشركات والمستقلين حيث يحتاج الأولون عمالة ماهرة مواكبة للعصر ويحتاج الأخيرون تدرّبًا عالي الجودة على مهارات مطلوبة في السوق. والبعد الثالث هو: خلق مكان آمن معنويًا ومهنيًا يلتقي فيه المستقلون العرب يشاركون مخاوفهم وانشغالاتهم وتطلعاتهم وتقدّمهم لأن الرحلة شاقة وتحتاج رفقة صالحة تعين المرء على عمله الذي لا زال المجتمع ينظر إليه بعين التشكك والريبة.

      هل لك أن تعطينا لمحة حول طريقتك في تسيير مشروع رقمي كرديف يضمّ جنسيات وأعراق مختلفة حول العالم تجمعهم في الغالب اللغة فقط؟.

يساعدني في التسيير زملاء وزميلات وعلى رأسهم الأستاذة بلقيس إدريسي وهند وأيوب بن عمارة وإكرام صغيري وهو عمل صعب لكنه عندما يكون جماعيًا يهون. كذلك العربية أحسن أداة جامعة للأقطار العربية وحتى غير العربية (على سبيل المثال من آخر من اشترك معنا تشاديّ يقطن في ماليزيا) فبفضل العربية نتفاهم ونتعاون ونتعلم الخير ونُعلِّمه.

      يصنع أعضاء مجتمع رديف بشكل يومي محتوى محترف على الانترنت، هل لك أن تسرد لنا بعض الأرقام عن قدر مشاركة رديف كمجتمع في إثراء المحتوى العربي الرقمي؟.

إليك هذه الأرقام حامِدًا الله عزّ وجلّ:

درّبنا بصورة فردية أكثر من 600 فرد وأهلناهم تأهيلًا مناسبًا لسوق العمل الحر عبر الإنترنت (معظمهم نساء) من أنحاء العالم الناطق بالعربية.

قدمنا 500 ساعة محتوى تعليمي وشرح تقني ومعرفي وتدريب مسجّلة في مكتبة رديف الخاصة وبعضها في الإنترنت العام.

أنتجنا ضمن #تحدي_رديف أزيد من 1600 مقال باللغة العربية. نُشرت بالفعل في الإنترنت (التحدي لا زال قائمًا وهو مفتوح للأبد) أي أننا أنتجنا ما يعادل 53 كتابًا منذ انطلاق التحدي (بواقع 30 مقال في كل كتاب)

ينتج أعضاء رديف مجتمعين وباللغة العربية حوالي 5 ملايين كلمة بالعربية كل عامٍ لعملائهم وللتسويق لخدماتهم والهيئات والمبادرات والأفراد (نحو 200 عضو مشترك حالي يدفع، مع متوسط إنتاج 30 ألف كلمة في العام لكل فرد) ما يعادل 100 كتاب كل عام (لو حددنا كل كتاب بـ50 ألف كلمة).

      في واقع تطغى عليه النزعة الاستهلاكية كالذي نعيشه، كنصيحة، ما هي أفضل الطرق لتحوّل الشخص من حالة الاستهلاك إلى الإنجاز؟

الحِمية المعلوماتية أي  informational diet وهي أن تراقب ما يستهلكه ذهنك كما تراقب ما يستهلكه بطنك.

      اُختير قبل أيّام مشروع "مجتمع رديف" ضمن القائمة القصيرة لجائزة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة للمحتوى الرقمي العربي، كيف تلقّيت هذا الخبر، وهل تعتبره مسؤولية إضافية لـ "رديف"، وما تأثيره عليه وعلى تجربتك ومسارك بشكل عام؟.

تلقيته بحمد المولى عز وجل والسرور والفرح وهو إنجاز لكل مجتمع رديف وأعضائه وطاقم عمله ونسأل المولى أن يوفِّقنا في تحمل مسؤولية هذا التشريف ويعيننا على تجاوز التوقعات وتحقيق ما هو أكبر منها.

إنّ مجرد وصول مجتمع رديف للقائمة القصيرة اعترافٌ ضمنيّ بالجهود التي بذلناها منذ إطلاق المجتمع وهو شرف كبير ووسام يسعدنا حمله ومسؤولية كذلك؛ وذلك لأن أهداف رديف تتقاطع مع مستهدفات الجائزة الرامية إلى: مكافأة المحتوى الرقمي الذي يركّز على التنمية المستدامة؛ والمساهمة في سدّ النقص في المحتوى الرقمي باللغة العربية؛ وتطوير مجتمع المعلومات والمعرفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهذا بالتحديد ما يعمل عليه بجدٍ واجتهاد مجتمع رديف بكامل أعضائه وفريق عمله.

      بعد تأهّلك لجائزة الإسكوا أطلقتَ هاشتاغ #أثر_رديف، وسرعان ما انتشرت عبر منصّة X العديد من التغريدات التي تناول أصحابها رديف كنقطة تحوّل أساسيّة في حياتهم العمليّة والشخصية أيضا، كيف استطعتَ من خلال مجتمع رديف تحقيق هذه المساحة الواسعة من التأثير والثقة في وقت وجيز إلى حدّ ما؟.

بفضل المولى عز وجل؛ وقد حرصتُ منذ أطلقت رديف على تقديم أقصى ما لدي وبذل ما في وسعي وخدمة الأعضاء على قدمٍ وساقٍ دون تأفف ولا كسل. 

وقد ساهمت طبيعة الأشخاص المشتركين والتي تتسم بالمحبة والمودة والكرم المعرفي والمادي والإيمان بوجوب إعلاء راية اللغة العربية وإنتاج المعرفة النافعة في جذب المزيد ممن يفكّر بنفس هذه الأفكار مما خلق حركيّة مباركة حميدة أنا نفسي أندهش يوميًا منها وذلك نظرًا لكمّ الحبّ والترويج الطبيعي العضوي الشفوي والكتابي الذي يؤديه مشتركو المجتمع طواعية وحبًّا في نمو المجتمع ونجاحه؛ وهذا ما أدى إلى توسّع رقعة تأثيره وشموله عددًا طيبًّا من مستخدمي الإنترنت. طبيعةُ الإنترنت كذلك والتي تُسهّل وتُيسّر نقل المعلومات والمعارف واتباعنا أساليب ما يسمى "التسويق الإنساني غير القسري" جذب لنا من كَرِه من التسويق الافتراسي القسري والمُلِّح؛ فنحن لا نقدّم وعودًا مبالغًا فيها ولا نكلّف أنفسنا فوق طاقتنا ونظهر عفويين ونقول ما نعلم ونُعلِّم ما تعلّمناه دون احتكار لأي أسرار أو طرق أو معرفة دنيوية.

      شهد الفضاء التكنولوجي عبر العالم في السنوات الأخيرة ثورةً في مجال الذكاء الاصطناعي، كيف ترى مستقبل التدوين وصناعة المحتوى في ظلّ التطور الرهيب لهذه التقنية التي يقول العديد من المتخصّصين أنها ستؤثّر حتمًا بشكل سلبي وخطير على كلّ المجالات إذا لم تُحدَّد بمعايير وضوابط صارمة؟.

الذكاء الاصطناعي نعمة جليلة للإنسانية وسيقتحم كل القطاعات بحيث يُيسِّر حياة الناس ويفتح آفاقًا جديدة. وهو أداة تعزز الإنتاجية ولن تستبدل من يتعلم باستمرار وله تفكير ناقد ومَلَكة تحليلٍ.

      نصيحة يونس بن عمارة لكلّ من يريد دخول مجال صناعة المحتوى الرقمي لكنّه مُقيّد بالتردّد والتخوّف من التجربة ومستقبلها؟.

«إن النسخ الأولى من أي عمل ستكون رديئة» كما يقول الحائز على نوبل إرنست همنغواي؛ لذا اُنشر على أي حال فبعد أن تصل لمستوى جودة مرتفع سترى الماضي وتصير النسخ الرديئة وسامًا على صدرك تفتخر به قائلًا: «بدأتُ من الصفر؛ أين كنت وأين صرتُ».

      كيف يرى ويقيّم يونس تعاطي "المؤسسات الإعلامية" الجزائرية والعربيّة مع المحتوى الرقمي المفيد والهادف وصُنّاعه، ولماذا يتجه اهتمامها بشكل ملفت نحو المحتوى الذي تطغى عليه السطحية والتفاهة بدل دعم واستثمار ما هو هادف باعتبارها مسؤولة ومساهمة بشكل رئيسي في بناء الإنسان والحضارة؟.

أولًا أشكرُ حضرتك الشكر الجزيل لكسر هذا النمطِ المؤذي للإعلام والناس على حدٍ سواء، وأرجو أن ينتبه الإعلام لمن يجاهد في صنع المحتوى النافع.

أعتقد برأيي أن اللوم لا يقع فقط على عاتق الصحفيين لا سيما وأن قطاعهم - أي الإعلام - يرزح هو نفسه تحت مشاكل تخصّهم لا سبيل لبسط القول فيها الآن وحضرتك أدرى بها منيّ؛ لكن أيضًا على صنّاع المحتوى أنفسهم أن يبادروا ويبذلوا الجهد للوصول للإعلاميين والصحفيين وتسهيل حياة هؤلاء الذين اختاروا من بين كل المهن: مهنة المتاعب؛ فمن المفترض وجود منصة مثل هارو الإنجليزية (helpareporter.com) التي تجمع بين الصحفيين والخبراء وصنّاع المحتوى ومعنى اسمها أصلًا "ساعد مُراسِلًا صحفيًا"؛ ولكن لا وجود لمثل هذه المنصة في واقعنا العربيّ؛ ومجموعات فيس وتيليجرام وواتساب غير مهنية وغير منظمة ولا كافية. لا بد من إطلاق: منصات وتطبيقات ومبادرات تتيح التواصل ما بين الصحفيين والإعلاميين من جهة وكل صاحب تأثير أو مشروع أو شركة أو مبادرة أو حركة إنسانية أو اختراع أو نظرية أو علم أو فهم أو شيء يقوله للعالم ويكون نافعًا من جهة أخرى؛ وذلك مثل منصة ماك راك (muckrack.com) فإنيّ أحلم بوجود مثلها ومثل برس هَنت (presshunt.co)؛ ومنصة كوتد (qwoted.com) وغيرها الكثير في العالم العربي.

      التدوين، الترجمة، عملك في "رديف"، ومواكبة كلّ جديد في مجالات اهتماماتك، كيف ومن أين يستمدّ يونس بن عمارة الحافز والوقت والقدرة لتحقيق كلّ ذلك بدون التقصير في أيّ مهمّة هي تعتبر حجر زاوية لمشاريعك؟.

بتنظيم الوقت وبصرامة وأيضًا لدي حمية معلوماتية صارمة كذلك، وتوفيق الله من قبلُ ومن بعْد. مع توفّر دعمٍ معنوي هائل من المقرّبين مني يدفعني للاستمرار وعدم خذلانهم.

      ماذا عن مشاريعك وخططك المستقبلية؟

أخطط مستقبلًا إن شاء الله لإطلاق برامج SaaS أي "برمجيات كخدمة"، مثل كانفا الذي يعرفه الكثير، لكن ليس للتصميم بل للكتابة وإنشاء مختلف أنواع المحتوى النصيِّ.

      كلمة في ختام الحوار لقرّاء "جريدة الحوار"؟

أشكر حضرتك جدًا أخي وزميلي منير سعدي، وإني لأشيد بجهودك العظيمة في تسليط الضوء على قضايا ومواضيع وشؤون وأشخاص لولاك لما غطّاها الإعلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابط الحوار على موقع جريدة الحوار الجزائرية


الأحد، 29 مايو 2022

في ندوة علميّة استضافت الباحثتين في التصوّف رشا روابح وشفيقة وعيل.. مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة يناقش اللغة الصوفية ويُخرج عفيف الدين التلمساني من عزلته

           في ندوة علميّة استضافت الباحثتين في التصوّف رشا روابح وشفيقة وعيـل

                مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة يناقش اللغـة الصوفيـة

     ويُخرج عفيف الدين التلمساني من عزلتـه

  

·     منير سعدي


·        الدكتورة رشا روابح: عفيف الدين التلمساني ظاهرة عرفانية، لا بدّ أن نعيده إلى جزائريّته، ويؤسفني أنّ كلّ شروحه حُقّقت من غير الجزائريين، وأنّه لا توجد أيّ مبادرة للاعتناء بتراثه.

·        الدكتورة شفيقة وعيل: ما نراه في الساحة، خاصّة النقدية، حول الصّوفية  في النّص الأدبي هو خبط عشواء، والمسألة أكبر من الحكم على استعمال مصطلحات وأساليب التصوّف.

·        رئيس المخبر الدكتور مسعود عبد الوهاب: العمل على الخطاب الصوفي دراسةً وتشريحًا يتطلّب التزوّد بآليات قرائية وبحثية قد لا تكون متاحة للجميع لاعتبارات عدّة.

·        الدكتورة شفيقة وعيل: الإشكالية الحقيقيّة في التعاطي مع النّص الصوفي هو في فهم علاقة اللغة بالتجربة.

·        الدكتورة رشا روابح: من يقرأ النصوص الصّوفية بذهنية فلسفية أو خلفية فقهية مستحيل أن يصل إلى مراد المؤلّف، وأقصى ما يصل إليه هو تكفيره أو اتهامه بالجنون.

·        الدكتورة رشا روابح: الاهتمام المتزايد بالتصوّف وبالمدرسة الأكبرية بشكل خاص يعود إلى عدة أسباب على رأسها الاهتمام الفكري المعاصر بعالم اللغة والإشارات، وأيضا بالخطاب الإنساني الكوني وكذا البعد المعنوي والروحي في الإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


- في عدده الثاني الذي خصّصه للتصوّف ونظّمه بالتعاون مع نيابة العمادة للبحث العلمي بالكلية والمرصد الولائي للثقافة والتاريخ والتنمية المستدامة والمكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية جمال بن ساعد بالجلفة، استضاف مقهى المخبر التابع لمخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة التابع لكلية الآداب بجامعة زيان عاشور بالجلفة الباحثتين في التصوّف الدكتورتين رشا روابح أستاذة محاضرة بجامعة الجزائر وصاحبة مشاركات دولية في مؤسسات بحثية، وشفيقة وعيل خريجة الجامعة الأميركية في بيروت وعضو فريق بحثي بجامعة نيويورك أبو ظبي.

في كلمته الافتتاحية قال منسّق المخبر الدكتور الطيّب بلعدل أنّ هذه الندوة هي رحلة عجيبة يختلط فيها الماضي بالحاضر والظاهر بالغائب، وتحاول أن تسترجع أولئك الأعلام، كالإمام ابن العربي الحاتمي الأكبر، والإمام ابن الفارض، ونحاول أن نعرّج من خلالها في الفتوحات وفي كلّ المتون الصوفية المتاحة لكلّ واحد منّا، وفي كلمته الترحيبية يرى رئيس المخبر وعميد كلية الآداب مسعود عبد الوهاب على أنّ العمل على الخطاب الصوفي دراسةً وتشريحًا يتطلّب التزوّد بآليات قرائية وبحثية قد لا تكون متاحة للجميع لاعتبارات عدّة متعلقة ببنية النّص الصوفي المتراوحة دلالته بين ثنائية الباطن والوجود، إضافة إلى بنيته المزدوجة في تمظهراته الدينية والأدبية، وأشار إلى إشكالية اللغة التي تشكّل الجانب العويص فيه، فبرأيه أنّ أكثر ما يثير الخطاب الصوفي من جدل هو جدل اللغة التي تمتاز بخصوصية منفردة.

الباحثة شفيقة وعيل في محاضرتها "أنطولوجيا اللغة الصوفية: لغة التجربة أم تجربة اللغة"، تناولت اللغة والتجربة في التصوّف، فالإشكالية الحقيقية برأيها في التعاطي مع النصّ الصوفي هو في فهم علاقة اللغة بالتجربة، وتتساءل عن اللغة التي تبدو مكثّفة وغامضة، فهل هي معنى محاولة لجلب الانتباه، أو محاولة لقول شيء لا يُقال، محاولة للتميّز خارج النصّ، الخروج عن سلطة المجتمع، من سلطة اللغة أم ماذا تحديدا؟، وإذا كان الأمر كذلك فهل الصّوفي يجرّب في اللغة، أم يتحدّث بلغة التجربة المتعالية، وكيف يمكن أن نميّز بين تجربة تقول بلغتها، وبين نصّ يحاول أن يجرّب باللغة، وهو ما نجده منتشرًا في كثير من النصوص، خاصّة الأدبية ومنها الشعرية خاصّةً، والتي تحاول أن تتماهى مع التجربة الصوفية، فتستعمل مصطلحاتها وأساليبها وبعض أفكارها، وأسماء أعلامها، وهي ترى أنّ هناك سهولة كبيرة واسترسال في وصف أي نصّ بالنصّ الصوفي، فتتساءل، إلى أيّ مدى يكون هذا الوصف دقيقا، وكيف يمكن أن نميّز بين تجربة صوفية وبين نصّ يحاول أن يجرّب باستعمال لغة التصوّف؟

تقول أنّ الذي يستدعي سؤال اللغة والتصوّف هو ذلك السّعي إلى ابتكار نموذج جديد للكتابة الشعرية، والأدبية على العموم، كتابة تحاول أن تكون صوفية بشكل ما، وطرح نقديّ يحاول أن يصوّف أيّ نصّ يستعمل استعراضَ مصطلحاتٍ وأساليب وأفكار صوفيّة، إمّا بغير قصد بسبب التراكم، أو بقصد الدخول فيما يسمى بموجة التصوّف بوصفه ميراثا عالميا، وتعود الدكتورة إلى سيرورة الأدب العربي وتتساءل "متى وصلنا إلى الحدّ الذي صرنا نقول فيه عن أيّ نصّ هذا نصّ صوفي؟، هل كانت النصوص الصوفية القديمة تلتبس مع النصوص الشعرية أم لا؟"

عرضت الدكتورة المتنبي كنموذج بوصفه علمًا كبيرا ومدخلًا للتصور للقضية، فتقول أنّ المتنبي استعمل عبارات الصوفية وأساليبهم ولغتهم لكن لم يقل أحدٌ من النقّاد أن المتنبي صوفيّ، بل قالوا إنّه استعار من الصّوفية أساليبهم ولغتهم في استدلالٍ على قدرته على التصرّف في اللغة، ما الذي جعل النقّاد لا يقولون عنه أنّه صوفيّ ولا عن تجربته صوفيّة، وتضيف "سيرة الرجل لم تدلّ على أنّه صوفي، ثمّ إن كان هو ليس صوفيا لماذا لم يُحكم على نصوصه أنّها صوفية، لأن استعارات المصطلحات والأساليب ببساطة فيما يبدو لم تكن تدلّ على صوفيّة النّص، الذي كان يدلّ على صوفية النصّ هو التجربة، وليست اللغة التي تدجج في النّص، ولأنّ الصورة وحدها دون فكرة لا تنتج نصّا صوفيّا.

عن المتنبي واستعماله أسلوب المتصوّفة فتقول "إنها مناولات لغوية فنّية، وليست تجربة عرفانية"، وأنّ الآن الحداثة الشّعرية فتحت بالمجاز واسعا، وأن هذا منطلق من الجدلية بين التجربة الأدبية والتصوّف، خاصّة الشعر، لأن كليهما يقومان على أنطولوجيا المجاز، وهو الخط الرابط بين الإثنين.

تعود شفيقة وعيل إلى العلاقة بين التفكير واللغة، العلاقة التي أثارت جدلا فلسفيا، لكن السؤال الفعلي برأيها الذي نطرح اليوم هو عن فعل الإدراك لنفسه، فالغاية هي تلمّس اللغة بما هي تجربة إدراك للعالم لدى الصوفية وكيفية تمييز علاقة لغتهم بالتجربة المتعالية، تقول "كون اللغة نظاما تمثّليا يعني أنها تخلق بدائل لغوية عن العالم الخارجي، هناك عالمان، عالم في الخارج تعبّر عنه لغة هي نتاج تفاعل مسبق للإنسان بوصفه الفردي مع المجاز، وعالم مُسقط في أذهان المتكلّمين نفس اللغة بوصفهم مجتمعا لغويا"، وهذا يخالف الرؤية التي يطرحها هايدغر الذي يصف هذا الطرح بالتقليدي، ويقول أنّه لا يكون الكلام سوى الأداة التي يستخدمها الإنسان للتعبير عن اعتمال النفس ورؤية العالم، لكن الكلام برأيه هو أكثر من ذلك، هو متكلّم، لأن اللغة كينونة في ذاتها، وتتكلّم به، أيّ بالإنسان، فاللغة ليست أداة، هي كائن، يقول من خلال اكتشاف الإنسان للعالم، فكلّ منّا هو مسهم لحدّ ما في اكتشاف العالم وفي صنع هذه اللغة التي هي تتجلى فينا جميعا"، وفي هذا السياق تستحضر ما قاله هايدغر "ينبغي الكفّ عن اعتبار الألفاظ أشياء قائمة في الأعيان وإعادة الألفاظ إلى الوجدانيّ الذي تصدر عنه"، وتتساءل "إذا كان المجازُ حالة أنطولوجية في اللغة والتجربة، كيف نميّز بين مجاز من التجربة الصوفية ومجاز ينهل من تجربة غير صوفية، مادام الرابط بين التصوّف وغيره هو المجاز، وترى بأنّ ما نراه في الساحة، خاصة النقدية، هو نوع من خبط العشواء، وأنّ كلّ نصّ فيه جبّة الحلّاج أو بئر سيدنا يوسف عليه السّلام، أو أيّ معنى أو اسم أو رمز صوفيّ، يقال ما هذه الصوفية التي في هذا النّص!!، وتقول أنّ المسألة أكبر من الحكم على استعمال المصطلح، تضيف "الذي أراه وبخصوص المتنبي، أنّ الأمر ينسحب على أيّ نصّ أدبيّ استعار التصوّف وأساليبه ولم يستند إلى رؤية الوجود،... ابن عربي نقول أنّه متصوّف لأنّ له رؤية كاملة، نحكم على ابن العربي بأنه صوفي لأنّ له تاريخا صوفيّا، له رؤية مكتملة صوفية، لأنّه أسّس لغةً تخصّه هو"، فالأمر إذن يحتاج إلى دائرة تصوّف، رؤية دينية أنطولوجية تعبق من التصوّف، وتنشئ لغتها الخاصة.

ترى بأنّه من حيث التصور الأنطولوجي، الألفاظ التي يستعملها الصوفي إلى لغة الحسّ لكن بحمولة أنطولوجية مختلفة، كأن يقول شيئا ولا يعني ما يعرفه الناس عنه، فالمعنى بحدّ ذاته عندهم ذو حمولة أنطولوجية غير متعيّنة حسيّا، لكن المتعيّن هو المدلول الموجود في الحسّ الذي ربطنا اللفظة به، واتفقنا على تسميته بها في نطاق سلطة الجماعة، وتقول "مادام صوفيّا فينبغي أن تقطع العلاقة بين الحسّي وبين ما عنده وأن تقول سأبحث عن المعنى الذي يريده لأنّه يستحيل أن يريد هذا المعنى، فنبحث عن الرسالة التي يقصدها"، بمعنى أنّ الألفاظ تمتلك حقيقة أخرى في معناها الصوفي وبذلك تصبح مجازية في معناها الحسّي.

تختم الباحثة شفيقة وعيل مداخلتها بالقول"على النّص أن يكون على الأسس الذي ذكرَتها، وهي النظر في المسار السلوكي على الصوفي المبدع، واستخراج رؤية وجود كليّة تنبثق من التصوّف، والبحث عن حركية المجاز بين مستويين صعودا ونزولًا، حتى نستطيع تمييز نوعية التجربة من تجربة أخرى".


أمّا المداخلة الثانية للدكتورة رشا روابح "عارف في مرآة عارف، عفيف الدين التلمساني قارئًا لابن العربي"، تقول رشا أنّ الدافع الأساسي لاختيار هذا الموضوع هو محاولة إخراج عفيف الدين التلمساني من عزلته التي طال أمدها في المجال التداولي العرفاني الجزائري، وإرجاعه إلى أرضه، فقد تلقّفه القوم من هنا ومن هناك وزهد فيه أهله من أهل الجزائر، فهو شخصية جزائرية تتميّز باستقلالية فكرية معرفية متفرّدة رغم تتلمذه المباشر للشيخ الأكبر ومجالسة مجلسه.

ترى رشا بأنّ البحث العرفاني يحظى اليوم بحيّز كبير من اهتمامات الباحثين، على اختلاف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم، وأنّ محي الدين بن العربي يتبوّأ الصدارة في هذا الاهتمام وهذا راجع لما قدّمه لهذا الحقل كمّا وكيفًا، حتى صار اليوم يشكل تخصصا قائمًا بذاته، فقد أُسست حول تراثه مؤسسات ومراكز أبحاث وجمعيات علمية تعتني بتراثه وتقام حوله سنويّا مؤتمرات علمية دولية، وأنّ هذه المكانة ليست جديدة وقد لازمته منذ حياته، لدرجة ابن تيمية رحمه الله يقسم تاريخ التصوّف إلى التصوّف ما قبل ابن عربي والتصوف ما بعد ابن عربي، ونجده يتقبّل إلى حدّ بعيد مقولات الصوفية للمرحلة الأولى ولا يكاد يكفّر صوفيّا باستثناء الحلّاج ومن كان على شاكلته، في حين نجده يكفّر بالجملة متصوّفة المرحلة الثانية وعلى رأسهم ابن سبعين وابن العربي وابن الفارض واستهدف بشكل خاص التلمساني، كما ترى أنّ هذا الاهتمام المتزايد الذي نشاهده اليوم بالتصوّف عموما وبالمدرسة الأكبرية بشكل خاص يعود إلى عدة أسباب على رأسها الاهتمام الفكري المعاصر بعالم اللغة والإشارات، وأيضا بالخطاب الإنساني الكوني وكذا البعد المعنوي والروحي في الإنسان، ويحظى ابن العربي بالاهتمام الأكبر كونه يختزل في تجربته الفكر العرفاني التي جسّدت مضامينه أهمّ ما تنشده الإنسانية اليوم ويشمل اهتمامها موضوع وحدة الإنسان، وحدة الدين، والاعتراف بالآخر وتجاوز فكرة الخلاص الفردي وحقوق المرأة ومركزية الإنسان وغيرها من القضايا المعاصرة التي تمخّضت عن حركة الحداثة، والتي وجدت الكثير من الإجابات التي يمكن وصفها إلى حدّ ما أنّها حاسمة في مجال التداول العرفاني، مع الكثير من التحفظ لأن هناك بعض القراءات التي تقرأ النصوص العرفانية مجتثة من سياقاتها أو بعبارة أخرى تريد أن تفصل بين الحقيقة والشريعة، وبين الظاهر والباطن وهذا ما أدّى إلى ظهور ما يسمّى بموضة التصوّف الفارغة من التشرّخ، وهذا برأيها أيضا ورم آخر لصق بالتصوّف يتطلّب استئصاله.

تمحورت إشكالية مداخلتها بسؤال أساسي مفاده "هل قراءة التلمساني لابن العربي قراءة بعين ابن العربي نفسه، يعني على طريقة أصحاب المناقب وكتابة المريدين عن شيوخهم، أم أنّها قراءة لابن العربي بعين التلمساني؟"، تقول رشا بأنّ ما يجيبنا عن هذا السؤال هو قراءة متأنّية لشرح فصوص الحكم بشكل خاص وكذلك الاطلاع على منهجية التلمساني عموما.

المحور الأول للمداخلة عرضته الدكتورة كنبذة حول الشيخ عفيف الدين التلمساني لأنه برأيها غير معروف مقارنة بالشيخ الأكبر، حيث ذكرت أهم محطات حياته بين تنقله إلى دمشق وآسيا الصغرى وبلاد الروم وخلوته فيها، وكذلك حضوره مجلس سماع كتاب الفتوحات المكية لابن العربي، والمحور الثاني قراءة التلمساني لابن العربي ومميزاتها ومميّزات مذهبه بشكل عام.

يعتبر التلمساني أنّ كلّ من ابن العربي والقونوي شيخان له، وقد بيّن القونوي مقدار الحظوة التي خصّ بها التلمساني من بين تلاميذه، حيث أوصى بكتبه كلّها له، تقول رشا "يلحظ قارئ العفيف أنّ النفري هو معلّمه الحقيقي، وإن لم يتمّ بينهما اللقاء غير أن نفَس المواقف النفرية سارٍ في جميع مؤلّفات عفيف الدين، فقد شكّل كتاب المواقف أساس المنظومة المعرفية والعرفانية للعفيف، حيث كان كثير الإحالة إلى مواقف النفري في مؤلفاته، بل كان يرجح كلام النفري على كلام ابن العربي وهو يشرح كلام ابن العربي في الفصوص، وكان يرى بأنّ ابن العربي هو خاتم الأولياء، وأن النفري مثل أويس القرني لم يعرّف الله الناس به كثيرا وأن كليهما كنز يُدفع بهما البلايا عن عباده".

كان العفيف بارعا في شرح أدقّ المتون العرفانية من طراز المواقف للنفري وفصوص الحكم لابن العربي وغيرها، له أيضا رسالة في علم العروض وله ديوان شعري وهو من أكثر كتبه حضوةً بالاهتمام إلى جانب شرحه لمنازل السائرين، حيث لقي ديوانه إعجابا وتقديرا أدبيا حتى من أشرس أعدائه، حيث يقول عنه الذّهبي "إنّه أحد زنادقة الصوفية وأمّا شعره ففي الذروة العليا من حيث البلاغة والبيان لا من حيث الإلحاد"، ويشبّه ابن تيمية ديوانه بلحم خنزير في طبق صيني.

وأشارت الدكتوره رشا إلى الكتابين الذين حُقِّقا للعفيف مؤخّرا في اسطنبول، كتاب "معاني الأسماء الإلهية" وكتاب "شرح الفاتحة وبعض سور البقرة"، وشرحه هذا كان بداية لمشروع تفسيري عرفاني ضخم لم يكتمل.

بالنسبة لمعارضيه، تقول رشا أنّ عفيف الدين التلمساني اُبتلي بالإنكار، شأنه شأن شيخه بن العربي، لكن بصورة أكبر لأنّه كانت له جرعة زائدة في الجرأة العرفانية، وفي طرح المسائل، وأوّل من تزعّم حملة الإنكار على عفيف التلمساني هو ابن تيمية، ثمّ كلّ من كفّر التلمساني أسّس كلامه على رأي ابن تيمية.

وعن مذهبه العرفاني وشرحه للفصوص تقول الدكتورة رشا روابح بأنّ التلمساني يتميّز بأصالة الطرح واستقلالية الفكر، حيث لم يكن أثناء شرحه للمتون العرفانية التي تناولها مجرد ناقل وشارح لمصطلحات صوفية بل كان ناقدا متمرّسا، وهذا ما نلمسه في شرحه للفصوص، حيث لم يكن يشرح كلّ الكتاب كغيره من الشُرح، اقتصر على شرح المطالب الغامضة في زمانه، وعلى المواضيع التي فيها رأي مخالف لرأي شيخه الأكبر، وقد أشار في شرحه بأنّه سيواصل شرح بعض المسائل والأمور قولا لا كتابةً حتى لا يُساء الأدب مع شيخه ابن العربي ومراعاة لمقامه، وهذا من تجليات الأدب الذي كان يتميّز به التلمساني، وتضيف أنّه أوّل من طرح فكرة الأسفار الأربعة في السير والسلوك، هذه الفكرة التي اشتهر بها فيما بعد الملا صدرا صدر المتألهين الشيرازي الذي ألّف كتابه المعروف "الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية"، وأنّها فكرة تلمسانية وليست شيرازية كما يروّج لها.

عن مذهب العفيف أيضا تقول رشا أنّه يقوم أساسا على مقولة الوحدة المطلقة وهذه الفكرة التي يُنتقَد عليها كثيرا، ففي كتابه مثلا "شرح الفاتحة" غالبا ما يتناول مسائل الوحدة والتعدّد في إطار الأسماء الإلهية، فهو يرى أن الوحدة المطلقة هي الأصل، لكن القرآن والسنّة بُنيا على أساس التعدّد مراعاة لعقول الناس، لأنّ الوحدة المطلقة تُعجز مدارك أغلب الناس، وقوله هذا مؤسّس على فكرة أخرى أيضا تميّز بها عفيف التلمساني وهي أنّ رؤيته ثلاثية للعرفان، علم وعرفان وتحقيق، وهي أطوار معرفية يقوم على أساسها تصنيف المسائل والخطابات العرفانية، وبسبب هذه الثلاثية اعتبر ابن تيمية ابن العربي أقرب محقّقي الصوفية للإسلام، واعتبر التلمساني أبعدهم.

العفيف يعتقد في نظريته التي تتأسّس على اسم الله الهادي، يصرّح بها في سياق تفسيره لقوله تعالى "اهدنا الصراط المستقيم"، أنّ كلّ الأسماء الإلهية تدور حول اسم الهادي، وأن الهداية تجري في كلّ شيء، وأن جميع أفعال الإنسان ترتكز على اسم من الأسماء الإلهية، هذه الرؤية المؤسّسة على مبدئين عرفانيين أساسيين لدى التلمساني ونجدهما أيضا عند غيره، لدى المدرسة الأكبرية بشكل خاص، ويصرح بها كذلك الأمير عبد القادر في مواقفه، وهي كلّ شيء في كلّ شيء، وأنّ كل اسم في كلّ اسم، وحدة مطلقة.

ما يميّز التلمساني حسب رأي الدكتورة رشا أنّه مع احترامه وتبجيله الكبير لشيخه ابن العربي غير أنّه لم يكن منبهرا به، ولم يقدّسه كما نلمح ذلك في رواد المدرسة الأكبرية، فقد كان موضوعيّا جدّا في تعامله مع شيخه، بل وكثيرا ما يعترض عليه، لكن بمنتهى الأدب اللفظي والمنهجي، فأحيانا يترك بعض المطالب الغامضة في الفصوص بدون توضيح ويقول "ولست أقول إن هذا الفصل يستغني عن البيان لكنّي لا أبيّنه مشافهةً أدبًا مع شيخي رضي الله عنه"، كما يعتقد العفيف على خلاف شيخه الأكبر وأتباع مدرسته بتعدّد ختم الأولياء، كما يختلف مع المدرسة الأكبرية في القول بوجود مرتبة وجودية متعلقة بالأعيان الثابتة، المرتبة البرزخية بين الوجود والعدم، عفيف الدين يفترض أنّه ليس بين الوجود والعدم واسطة، والعفيف وإن خالف الشيخ في بعض المواضع لكنّه قد وجّه كلام الشيخ وهذا لأدبه، فيقول "وهو عندي معذور، لأن أهل الفهم كلّهم عجزوا عن إدراكه".


تختم روابح مداخلتها بالقول "عفيف الدين التلمساني ظاهرة عرفانية لا بدّ أن نعيده إلى جزائريته، إلى أصله، يفترض أن تُكوّن فرق بحث حول عفيف الدين لأنه ليس مجرّد عارف، هو ينسب إلى المدرسة الأكبرية لكن له مذهب خاص، يمكن أن يكوّن مدرسة عرفانية مستقلة خاصّة به، والمؤسف أن لغته الرمزية والإشارية أبقت تجربته حبيسة مجال تداولي نخبوي ضيّق، ولم تخرج من هذا المجال، وتعذّر نشرها في نطاق واسع".



حوار مع الكاتب والمترجم ومُؤسِّس "مجتمع رديف" الأستاذ يونس بن عمارة على جريدة الحوار ~ْ

الكاتب والمترجم ومُؤسِّس "مجتمع رديف" الأستاذ يونس بن عمارة للحـوار: غاية مشروع "مجتمع رديف" الأساسيّة إضفاء قيمة اقت...